التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي

التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي

كريمة لهلالي
باحثة في سلك الدكتوراه
جامعة محمد الخامس-الرباط

مقدمة
يكشف الخوض في موضوع العلاقات المغربية الأوربية منذ البداية أننا أمام موضوع يتميز بالغزارة والتنوع والتعقد، ويرجع ذلك بالأساس إلى مجموعة من المحددات التي تحكم هذه العلاقات، والتي ترتبط بالقرب الجغرافي، والإرث الاستعماري، وتشابك المصالح بين الطرفين في إطار جدلية مستمرة عبر التاريخ تتسم أحيانا بالصدام والصراع، وأحيانا أخرى بالاتصال والتعاون.
وترتكز هذه الدراسة على جانب مهم من العلاقات المغربية الأوربية يتحدد في الجانب الأمني، الذي أضحى من الملفات الرئيسية التي تميز التعاون الأوروبي المغربي في الألفية الثالثة، خاصة بعد تنامي ظواهر أمنية عابرة للحدود والقارات ابتدءا من هجمات 11 سبتمبر 2001 وانتهاء بالهجمات الإرهابية على فرنسا وبروكسيل وزوليخ بألمانيا عام 2016، بحيث أبانت هذه الهجمات عن حيوية وإستراتجية التعاون الأمني الاستخبارتي المغربي مع دول الاتحاد الأوروبي.
تكمن إذن أهمية هذا الموضوع في راهنيته المتجددة، وتزايد محورية الأبعاد الأمنية في العلاقات الدولية المعاصرة، نظرا لتعدد المخاطر الأمنية وارتباطها بمختلف المجالات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وتداخلها الداخلي والخارجي.
إن تفشي بعض التحديات والمخاطر الأمنية العابرة للحدود في المنطقة المتوسطية من قبيل تدفق المهاجرين واللاجئين، وتنامي الحركات الإرهابية، خاصة ما يسمى بتنظيم "داعش" وامتداداته الدولية التي تتغذى على الأزمات والصراعات في المنطقة العربية (العراق، سوريا، ليبيا..)، جعل دول الاتحاد الأوروبي تعتبر جنوب المتوسط، والمغرب بشكل خاص، عمقها الاستراتيجي، والخط الأمامي للدفاع عن أمنها القومي .
لقد أدى مجموع هذه التحديات والمخاطر الأمنية في الواقع إلى رفع درجة الارتباط والاعتماد المتبادل بين الطرفين المغربي والأوروبي، لكن كلا حسب أولوياته ومصالحه، فإذا كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهشة للمغرب قد جعلته يراهن أكثر على أوروبا لتحقيق مصلحته الاقتصادية والدفاع عن مصالحه الحيوية بشكل عام، فإن أوروبا - التي وجدت نفسها مطوقة في جنوبها بدول هشة اقتصاديا ومنهارة أمنيا وسياسيا، خاصة بعد ثورات الربيع العربي- أصبحت بدورها تراهن أكثر فأكثر على المغرب لحماية أمن حدودها، بوصفه الحلقة الأبرز ضمن حالات الاستقرار الاستثنائية القليلة بالمنطقة المتوسطية، ولأدواره الأمنية الفاعلة إقليميا ودوليا.
بناءً عليه سنحاول في هذه الدراسة الإجابة عن إشكالية جوهرية تتمحور حول السؤال التالي: ما مدى توفر المغرب على إستراتجية أمنية شاملة تقوم على الدفاع عن مصالحه الحيوية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي مقابل "الخدمات الأمنية" التي يقدمها للاتحاد الأوروبي؟
يمكن معالجة هذه الإشكالية من خلال الاستعانة بمقاربة متعددة المناهج يقودها المنهج النسقي، وذلك في مبحثين أساسيين: يتناول الأول محددات ومجالات التعاون الأمني الأورو-مغربي، أما الثاني فيحاول تقييم هذا التعاون من خلال الوقوف على الدور الأمني للمغرب ومدى انعكاسه على مصالحه الحيوية.
المبحث الأول: التعاون المغربي الأوروبي في المجال الأمني: المحددات والمجالات
يستدعي فهم التعاون الأمني بين المغرب ودول الاتحاد الأوروبي إبراز أسس ومحددات هذا التعاون (المطلب الأول)، وأهم مجالاته (المطلب الثاني).
المطلب الأول: محددات التعاون المغربي الأوروبي في المجال الأمني
تتحكم مجموعة من الثوابت والمتغيرات في تحديد الموقع الأمني للمغرب في علاقاته بالاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها موقعه الجغرافي القريب من أوروبا (أولا)، وإرثه التاريخي (ثانيا)، علاوة على المقومات السياسية والإستراتيجية التي يتوفر عليها، والتي جعلته مخاطبا أساسيا للعديد من القوى الأوروبية في المجال الأمني (ثالثا) خاصة بعد إفرازات الربيع العربي.
أولا: القرب الجغرافي
لا يزال المجال الجغرافي في عصر العولمة يساهم بشكل كبير في تحديد مقومات وهويّة الدولة، وفي رسم استراتيجيتها على السـاحـة الدولية، وتحديد مجالها الحيوي. فموقع الدولة داخل منظومة جغرافية معينة يعد عنصرا محددا لنوع وحجم التهديدات التي يمكن لهذه الدولة أن تواجهها، ولدوائر تحركها لدرء هذه المخاطر والتهديدات.
وإسقاطا على حالة المغرب، فإن هذا الأخير يحظى بموقع جغرافي استثنائي بين البحر والمحيط والصحراء، حيث يقع على مفترق الطرق بحريّا وقاريّا، وعلى ملتقى الشعوب والحضارات، وهي استثنائية أكـّدها الأستاذ "ميشال روسي" (Michel ROUSSET) عندما وصف المغرب بـ"مفترق طرق المنطقة المتوسطية: Carrefour de la méditerranée" . فهو البلد الإفريقي والعربي والمغاربي الأكثر قربا من أوروبا" .
وبناءً عليه، يمكن القول أن موقع المغرب على المستوى الأمني يتحدد من خلال ثلاثة مقومات جيواستراتيجية أساسية:
على مستوى الدائرة المغاربية-الإفريقية: إن انتماء المغرب إلى المنطقة المغاربية، مجاله الطبيعي وعمقه الإفريقي، يفرض عليه إيلاء اهتمام كبير لجل مظاهر الأمن الإقليمي في هذين الفضائين لتأثيرهما المباشر على أمنه القطري، خاصة في ضوء ما يشهدانه من اضطرابات وفوضى نتيجة تداعيات الربيع العربي والتي تتجلى في فشل وانهيار بعض الدول المغاربية كليبيا وموريتانيا، والوضع الأمني المتردي في منطقة الساحل والصحراء، وهو ما يفسر حرصه على احتضان ونجاح المفاوضات السياسية بين الفرقاء الليبيين المتصارعين، ودعمه للاستقرار في مالي.
على مستوى الدائرة العربية: يعتبر المغرب نفسه معنيا بشكل مباشر بأزمات ونزاعات الوطن العربي بالنظر إلى كون العروبة من محددات هويته، وعلى رأس هذه القضايا القضية الفلسطينية وما يعرفه العالم العربي من أحداث وتطورات في العراق وسوريا واليمن، وهذا ما يبرر مشاركته في التحالف العربي في الأزمة اليمنية.
على مستوى الدائرة المتوسطية: إن الانتماء المتوسطي للمغرب وقربه الجغرافي من القارة الأوروبية يفرض عليه الدخول مع دول الاتحاد الأوروبي في علاقات متعددة الأبعاد، بسبب طبيعة القضايا التي تفرضها نقط التماس بين ضفتي المتوسط، كتيارات الهجرة غير المشروعة، وشبكات الاتجار في المخدرات - التي تتخذ من النقط الحدودية بين المغرب واسبانيا خاصة عبر مضيق جبل طارق ممرا رئيسيا لها-، واستمرار الاحتلال الاسباني لمدنتي سبتة ومليلية وبعض الجزر المغربية وغيرها من الأخطار التي يطرحها الجوار المغاربي، والعمق الاستراتيجي الإفريقي، على اعتبار أن استقرار دول شمال البحر الأبيض المتوسط يرتبط بالضرورة باستقرار جنوبه.
هذه الاعتبارات جعلت الطرف الأوروبي، الذي وجد نفسه مطوقا في جواره الجنوبي بحالة غير مسبوقة من الاضطراب والهشاشة، يرى في المغرب الجار المستقر الأكثر قربا والبوابة الأولى لصد التهديدات التي قد تطال أمنه، ولذلك فهو يعد من الأرقام الصعبة في المعادلة الأمنية الأوربية، لأن موقعه الاستراتيجي يؤهله للعب دور "الحارس الأمين" للحدود الأوربية من المخاطر الأمنية والحفاظ على أمن المتوسط، وهو الدور الذي تأكد عبر الروابط التاريخية المتينة بين المغرب ودول الاتحاد الأوروبي.
ثانيا: الإرث التاريخي
تلازما مع عنصر الجغرافيا، لا يمكن فهم وإدراك الارتباط الأوروبي المغربي والتعاون الأمني بينهما على وجه الخصوص دون استحضار الإرث التاريخي المشترك، حيث إن الثقل التاريخي للدولة المغربية وإرثها الحضاري في المجال المتوسطي يعكس بوضوح مدى تأثير الموقع الجغرافي في الدور والموقع الأمني للمملكة في المتوسط، سواء إبان أوج قوتها وازدهارها، أو خلال ضعفها وانكسارها.
وعليه يمكن مقاربة الموقع الأمني للمغرب على الساحة الدولية من خلال محطتين أساسيتين من تاريخه: مرحلة المغرب القوي-الفاعل، ومرحلة المغرب الضعيف-المتنازل.
فبحكم الموقع البحري المتميز للمغرب، اهتم المغاربة مبكرا بوسائل الدفاع البحرية بهدف توفير الأمن والسلامة في البحار، باعتبارها مصدرا رئيسيا للثروة والتهديد في آن واحد، إذ أولى مختلف السلاطين الذين تعاقبوا على حكم الدولة المغربية بداية من القرن الثامن ميلادي، اهتماما كبيرا لإنشاء الأساطيل البحرية (التجارية والحربية)، وإنشاء المحارس للتحكم في مداخل مضيق جبل طارق ، بوصفها أحد الأركان الأساسية لبناء قوة الدولة وضمان أمنها في المتوسط والغرب الإسلامي . وهو ما مكنـّهم فعلا من بناء دولة قوية وفاعلة على المستوى الإقليمي والدولي، استطاعت في أوج عطائها أن توحد ضفتي المتوسط الغربي تحت سلطة واحدة، ولم تخضع للاحتلال الأجنبي إلا في فترات متقطعة.
فعلى عهد المرابطين والموحدين - ما بين القرن الحادي عشر والثاني عشر ميلادي- تمكن المغرب من بناء قوة بحرية منظمة وموحدة، بلغت أوجها خلال حكم يعقوب المنصور الموحدي، واستطاعت بسط نفوذها على سواحل المغرب الأقصى والأوسط وسواحل الأندلس وبعض الجزر المتوسطية. ولم تقتصر مهمة الأسطول الموحدي على النشاط التجاري فحسب، بل أخذ على عاتقه مهمة الجهاد ضد الصليبيّين، وكذا قمع حركة القرصنة التي كانت منتشرة في صفوف المسيحيين والمسلمين على حد سواء، وهو ما أدّى إلى ازدهار التجارة الساحلية بشكل غير مسبوق في مجموعة الموانئ والمدن الساحلية على ضفتي المتوسط الغربي ، الذي أصبح بحيرة موحدية آمنة.
وهو الوضع الذي دفع بعض المدن الإيطالية التي كانت لها أنشطة تجارية في سواحل شمال إفريقيا خاصة مدينتي جنوة وبيزة، إلى إبرام معاهدات للسلام والتجارة مع السلاطين الموحدين سنتي 1160 و 1186م على التوالي ، لكون ذلك وحده الضامن لحرية الأشخاص والمعاملات. وبذلك يكون الموحّدون قد لعبوا دورا فعّالا في إرساء تقاليد بحرية تتعالى عن الصراعات السياسية والعسكرية بين المسلمين والأوروبيين، وتقوم على مبدأ احترام نواميس التجارة الدولية وضمان السلام والطمأنينة في البحار .
لكن مع ضعف الدولة المغربية خلال القرن15 م في عهد المرينيين الذين فشلوا في استعادة عظمة القوة البحرية المغربية، برز الجهاد البحري المغربي الذي عرف لدى الأوروبيين "بحركة قراصنة سلا"، وتطور بشكل كبير خلال القرنين 17 و18 على عهد السعديين والعلويين، إذ تكاثرت سفن المجاهدين الذين تمرسوا على القتال في البحر، وتوسّع نشاطهم الذي لم يعد مقتصرا على الإسبان والبرتغال بل شمل غيرهم من المسيحيين، إنجليز وفرنسيين وهولانديين... .
في هذا السياق التاريخي لعب السلاطين السعديون ثم العلويون دورا أمنيا مهما في السواحل المتوسطية والأطلسية، حيث كانوا مخاطبين رئيسيين للأمم الأوروبية من أجل حماية سفنهم من "القراصنة المغاربة" وحتى الجزائريين، وافتكاك أسراهم، ومن ذلك المعاهدة التي أبرمها محمد المتوكل السعدي مع ملكة انجلترا عام 1576 والتي نصت على الالتزام بعدم تعرض قراصنة المغرب للسفن الانجليزية، وبعثات لويس الثالث عشر -ملك فرنسا- إلى المغرب لتحرير الرهائن الفرنسيين، إذ قام المبعوث الفرنسي "إسحاق رازيلي" (Isaac Razilly) ما بين 1625 و1631 بأربع رحلات إلى المغرب تمكن من خلالها من تحرير 180 بحارا فرنسيا، وكذا الاتفاق الذي أبرمه السلطان العلوي محمد بن عبد الله مع أمريكا عام 1784 على اثر احتجاز السفينة الأمريكية "The Betsey" في عرض السواحل الأطلسية ...
تبين هذه الأحداث وغيرها أن للمغرب أعرافا عريقة في علاقات حسن الجوار، وحماية ورعاية الأمن والسلم، جعله مرجعا وقبلة لمختلف القوى والأمم الأوروبية لتأمين تجارتهم البحرية. لكن ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر سيتعرض المغرب لحملة استعمارية أوروبية ممنهجة لتفكيك بناه الترابية، ونهب خيراته وثرواته، وزرع أسباب النزاع بينه وبين جيرانه، وتحويل مركزه من دولة قوية وفاعلة إلى دولة خاضعة وتابعة للقوى الأوروبية.
وحتى بعد حصوله على الاستقلال خلال منتصف خمسينات القرن الماضي، لم يستطع المغرب فك الارتباط بالقوى الأوروبية، بل لجأ تحت طائلة الإكراه الجغرافي والإرث التاريخي والضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية إلى تعميق ارتباطه بأوروبا، لكن من موقف ضعف، يجعله يخضع لشروط وإملاءات الطرف القوي.
فعلى المستوى السياسي والأمني خرج المغرب بعد تصفية الاستعمار بتركة ثقيلة فيما يتعلق بتجزيء وحدته الترابية، شكلت ومازالت مصدرا لاستنزاف ثرواته، واستغلاله من طرف القوى الأوروبية الكبرى لخدمة مصالحها، وباتت محددات أساسية لعلاقاته مع دول أوروبا.
يعتبر النزاع المفتعل حول الصحراء من أبرز التحديات الأمنية والإستراتجية في العلاقات الدولية المغربية، الذي عملت القوى الأوروبية على توظيفه كورقة ضغط لخدمة مصالحها. وهو ما يتجلى بوضوح في عدم إدراج حل هذا النزاع ضمن قضايا التعاون الأمني، حيث اتجهت الدول الأوروبية إلى فرض تصورها ومنظورها للأمن، الذي يقوم على ربط التهديدات الأمنية الجديدة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهشة للمغرب ودول جنوب المتوسط عموما، ومن ثم إعطاء الأولوية في مجالات التعاون لقضايا دون أخرى وفق مقياسها للخطر والتهديد، كتقديم قضية الهجرة والإرهاب الذي أصبح مرتبطا بالأصولية الإسلامية، على حل النزاعات في جنوب المتوسط وفي مقدمتها ملف الصحراء، والتي تكون في الغالب مصدرا لمختلف المشاكل التي تعتبرها أوروبا تهديدات أمنية.
كما يعد استمرار الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلية وبعض الجزر علاوة على المشاكل المرتبطة بترسيم الحدود البحرية، محددا أساسيا في العلاقات الأمنية المغربية الإسبانية. فإذا كانت الخلفية التاريخية للاحتلال الاسباني للثغور المغربية ترمي إلى تحويل هذه الجيوب إلى درع واقي للتخوم الاسبانية الجنوبية وتطويق القوة البحرية المغربية في المتوسط، فإن استمرار هذا الاحتلال اليوم يشكل مصدرا للعديد من التحديات. ذلك أنه يؤدي إلى إحجام قدرات المغرب البحرية والتجارية في المتوسط، وعرقلة تنمية مناطقه الشمالية، التي تحولت إلى مصدر لتهريب السلع والمخدرات والهجرة السرية... مما يؤثر سلبا في موقعه الاقتصادي والأمني، ويساهم باستمرار في تأزم علاقاته مع الجار الإيبيري، كما هو الشأن عند أزمة جزيرة ليلى سنة 2002 ، أو عند الزيارة التي قام بها العاهل الإسباني إلى سبتة ومليلية عام 2007 .
ثالثا: المحددات السياسية والإستراتيجية
إضافة إلى المحددات الجغرافية والتاريخية، يستند الارتباط الأمني بين أوروبا والمغرب إلى عدد من المقومات السياسية والإستراتيجية، التي أظهرت المملكة المغربية في سياق "الربيع العربي" كحالة متفردة في جنوب المتوسط، وجعلتها شريكا استراتيجيا لأوروبا في المجالات الأمنية.
ففي سياق إقليمي يتسم بانتشار الفوضى والاضطراب وتنامي المخاطر الأمنية، برز المغرب على المستوى المغاربي والإفريقي والعربي كلاعب سياسيًّ وأمنيًّ محوريًّ، جعل أوروبا التي وجدت نفسها مطوقة في جنوبها بدول هشة ومنهارة أمنيا وسياسيا، وبجيل جديد من التهديدات الأمنية للهجرة غير المشروعة بسبب تقاطعها غير المسبوق مع الجريمة المنظمة والتهديدات الإرهابية، ترى في المغرب شريكا أساسيا لا غنى عنه لتطويق المخاطر الأمنية المتصاعدة.
يأتي هذا الوضع استنادا إلى مجموعة من المقومات التي يتوفر عليها المغرب، وفي مقدمتها العامل الأمني والمخابراتي، حيث يتوفر المغرب على جهاز أمني ومخابراتي محكم، معترف بفعاليته إفريقيا وعربيا وأوروبيا، وإمكانيات لوجستية وبشرية مهمة، مما يؤهله للعب أدوار طلائعية لاحتواء مختلف التحديات الأمنية، والمساهمة في إحقاق السلم والأمن الدوليين.
بالإضافة إلى قدرته على تدبير واحتواء الأزمات. فعلاوة على مساهمته في عمليات حفظ السلام الأممية التي أكسبته خبرة مهمة في مجال تدبير الأزمات الدولية، أبان المغرب غير ما مرة عن قدرته واستعداده لمواجهة واحتواء مختلف التحديات الأمنية على المستويين القطري والإقليمي.
فعلى المستوى القطري، برهن المغرب مرارا عن قدرته على السيطرة على المخاطر المحدقة بأمنه واستقراره، وهو ما تجسد بوضوح من خلال تفاعله مع ثورات الربيع العربي، حيث تمكن المغرب، على خلاف باقي دول الضفة الجنوبية للمتوسط، من احتواء موجة الاحتجاجات التي طالته بشكل سلس، والحفاظ على أمنه واستقراره، ويرجع حسب العديد من الخبراء إلى الملكيَّة العريقة التي تلعب دور المحافظ على الاستقرار .
فوسط مجمل التطورات التي اجتاحت شمال إفريقيا، يبرز المغرب كاستثناء؛ ساهم الربيع العربي في تسريع مسلسل الإصلاحات فيه دون المساس بنظام الدولة، وتمكنت المملكة من تفادي الاضطرابات الثورية والقمع العنيف، وعجّلت من وتيرة عملية التجديد السياسي والاجتماعي التي امتدت على مدار العقود السابقة من خلال إقرار إصلاحات دستورية ومؤسساتية.
أما على المستوى الإقليمي، خلف انهيار نظام القذافي فراغا أمنيا كبيرا في منطقة شمال إفريقيا، حيث أصبحت الحدود الليبية والمالية مرتعا لكل الأنشطة غير المشروعة كتجارة السلاح والإرهاب والمخدرات والهجرة السرية، مما ساهم في اتساع بؤر التوتر في منطقة الساحل والصحراء، التي تعتبر من قبل دول شمال إفريقيا والعديد من دول أوروبا بمثابة تهديد كبير للأمن الأورومتوسطي، خصوصا بعدما تمكن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من السيطرة على بعض المناطق الليبية. وهي الأوضاع التي أدت إلى تزايد الضغوط الأمنية على المغرب، الذي أصبح ملزما بتحمل جزء مهم من الأعباء التي كانت تتحملها دول الجوار خصوصا فيما يتعلق بمحاربة الهجرة السرية، والإرهاب.
وفي هذا الإطار عمل المغرب على تعزيز دوره ومكانته الإقليمية كحاجز أمني لدول شمال المتوسط والفضاء الأورومتوسطي بشكل عام. فعلاوة على مساهمته المباشرة في احتواء الأوضاع الأمنية المتردية وإعادة الاستقرار إلى دول الجوار كاحتضانه وحرصه على إنجاح المفاوضات بين الأطراف الليبية المتنازعة، وتدخله في أزمة مالي، انكب المغرب على إعادة الترابط وتقوية نفوذه السياسي والاقتصادي خاصة مع منطقة الساحل وشمال إفريقيا .
وهو الأمر الذي يزيد من أهمية المملكة المغربية، بسبب ما تتمتع به من موارد واستقرار سياسي نسبي، يجعلها مخاطبا قويا بالنسبة لأوروبا والبلدان الغربية عموما، لتحديد ملامح المرحلة الجديدة للتعاون السياسي والأمني في المنطقة الأورومتوسطية.
فمن وجهة نظر أوروبية، يعد المغرب شريكا محوريا ذو مصداقية، وهو ما جاء على لسان عدة أطراف، فقد أكد المفوض الأوروبي المكلف بالهجرة والشؤون الداخلية والمواطنة "ديميتريس افراموبولوس"، في زيارته الأخيرة للمغرب، أنه "بالنسبة لأوربا، المغرب شريك استراتيجي خاصة في مواجهة التحديات المشتركة مثل الهجرة والأمن"، كما اعتبر المؤرخ الفرنسي "برنار لوكَان" أنَّ آخر ملجأ ممكن بالنسبة إلى أوروبا، اليوم، حيال التحديات القائمة [...] هو المغرب، باعتباره إحدى الدُّول التي لا تزالُ ترفلُ في استقرار بعد كلِّ الاضطراب الذِي عمَّ المنطقة" .
المطلب الثاني: مجالات التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي
تتعدد الملفات التي تحكم العلاقات الأمنية بين المغرب والاتحاد الأوروبي، سواء على المستوى الثنائي، خاصة مع الدول المتوسطية، أو المتعدد الأطراف في إطار الاتحاد، وفي مقدمتها ظاهرة الهجرة السرية (أولا)، ومحاربة الإرهاب (ثانيا).
أولا: ظاهرة الهجرة السرية
يمكن القول أن ظاهرة الهجرة السرية أو الهجرة غير القانونية تعتبر من المجالات الأمنية البنيوية في العلاقات المغربية الأوربية، بحكم القرب الجغرافي والإرث الاستعماري والتفاوت الاقتصادي بين المغرب وأوروبا.
يعود تاريخ الهجرة غير الشرعية من المغرب إلى أوروبا إلى ستينات القرن العشرين، لكنها لم تكن مُجَرّمَة لحاجة الدول الأوروبية إلى اليد العاملة خلال تلك الفترة، غير أن أوروبا ستعمل مع بداية السبعينات على تجريم هذه الظاهرة، ونهج سياسة صارمة للحد منها، لاسيما بعد دخول اتفاقية "شنغن" حيز التطبيق عام 1995 ، والتي تضمنت مجموعة من الإجراءات الحمائية؛ كفرض التأشيرة، ومراقبة صارمة للحدود، واعتماد نظام انتقائي لمنح رخص العمل، مما زاد من حدة الهجرة غير الشرعية من المغرب، الذي تحول أيضا إلى بلد عبور رئيسي، خاصة عبر بوابة مضيق جبل طارق، الوجهة المفضلة لدى العديد من المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء .
كما عمل القادة الأوروبيون على تشديد المقاربة الأمنية في مجال الهجرة بشكل غير مسبوق مع تداعيات الأحداث الإرهابية التي طالت أوروبا بعد أحداث 11 شتنبر 2001 وانتفاضات الربيع العربي ابتداءً من سنة 2011، بسبب تقاطع موجات الهجرة الجديدة مع تنامي عدد من الظواهر ك"الإسلامفوبيا"، والعنصرية، وأعمال العنف والتهديدات الإرهابية والجريمة المنظمة، حيث تم تعزيز مجموعة من الإجراءات كإنشاء معسكرات الاحتجاز، وتشديد الرقابة على الحدود، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وتعقب المهربين والمهاجرين...إلخ.
ولكون المجال البحري والبري المغربي يشكل ممرا أساسيا للمهاجرين المغاربة والأفارقة من جنوب الصحراء للعبور سرا نحو أوروبا، فإن المغرب يعد طرفا محوريا في تنفيذ السياسيات الأوروبية في مجال الهجرة، وأكثر دول جنوب المتوسط تأثرا بمقاربتها الأمنية في هذا المجال ، إن على المستوى الثنائي أو المتعدد الأطراف.
فعلى مستوى العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، كانت قضية الهجرة حاضرة ضمن بنود اتفاق الشراكة لعام 1996، حيث شكلت مراقبة تدفقات الهجرة خاصة السرية منها، إلى جانب تعزيز الالتزامات والحقوق المكتسبة للعمال المهاجرين المغاربة جوهر المحور الاجتماعي للاتفاق . كما كان تدبير تدفقات الهجرة موضوع تفصيل ضمن مقتضيات خطط العمل المشتركة المعتمدة في إطار كل من سياسة الجوار سنة 2005، والوضع المتقدم سنة 2013.
وبشكل عام، يبدو من خلال هذه المقتضيات القانونية والسياسية أن المقاربة الأوروبية المقترحة لمعالجة ملف الهجرة لا تحيد عن آليتين اثنتين:
الأولى تكمن في الحد من ضغط الهجرة عبر تطوير الهجرة الانتقائية وتوسيع قاعدتها، عن طريق تحسين إجراءات الإقامة القصيرة بالنسبة للأشخاص، والاعتراف المتبادل بالمؤهلات الأكاديمية والمهنية وتسهيل منح التأشيرات لبعض الفئات كالطلبة والباحثين ورجال الأعمال. وفي هذا الإطار تمكن الطرفين المغربي والأوروبي من توقيع بروتوكول إضافي حول "التنقل" في يونيو 2013 .
والثانية تتمثل في محاربة الهجرة غير الشرعية عبر تعزيز التدبير المشترك للحدود من خلال تطوير القدرات التنظيمية والمؤسساتية وتقديم الدعم التقني والمالي لمراقبة الحدود، فضلا عن تبني سياسة معينة لإعادة المهاجرين غير القانونيين في إطار ما يعرف باتفاقيات إعادة القبول .
أما على المستوى الثنائي، كان ملف الهجرة السرية موضوع العديد من الاتفاقيات التي أبرمها المغرب مع عدد من الدول الأوروبية خاصة المتوسطية منها، وفي مقدمتها اسبانيا، وفرنسا، والبرتغال وإيطاليا... وسأكتفي هنا باستعراض النموذج الاسباني، لحساسية هذا الملف في علاقات الجانبين وقوة تأثيره في صياغة السياسات المستقبلية وبناء علاقاتهما الثنائية، باعتبارهما الأقطاب الأكثر عرضة لمواجهة الحركات الرئيسية للهجرة التي تقع بين إفريقيا وأوروبا .
يرتبط المغرب واسبانيا بمجموعة من الاتفاقيات الثنائية في مجال محاربة الهجرة غير الشرعية، يعود أولها إلى اتفاق سنة 1992 الذي يهم "تنقل الأشخاص، والعبور وإعادة قبول المهاجرين غير القانونيين"، حيث يلتزم المغرب بموجب المادة الأولى منه بمنع المهاجرين السريين من المرور عبر أرضه نحو أوروبا بطرق غير شرعية، واستقبال كل المهاجرين السريين الذين دخلوا الأراضي الاسبانية عبر المنافذ المغربية شريطة إثبات ذلك (المادة 2). هو الشرط الذي ظل محط خلاف دائم بين الطرفين .
وفي دجنبر 1995 قام الطرفان بتجديد هذا الاتفاق بعد انتهاء مدته المحددة في ثلاث سنوات، وأضافا بندا جديدا يلزم المغرب بتكثيف دوريات خفر السواحل، لرصد تحركات المهاجرين غير الشرعيين ، وأحدثا لذلك سنة 1999 لجنة دائمة على مستوى وزارتي الداخلية للبلدين مكلفة بوضع آليات مشتركة لتتبع العمليات وتبادل المعلومات. كما وقعا في25 يوليوز 2001 اتفاقا حول "الهجرة المؤقتة للعمل"، وفي مارس 2007 اتفاقا للحد من الهجرة غير الشرعية للقاصرين غير المرافقين. هذا بالإضافة إلى اتفاقيات التعاون في ميدان الشرطة والقضاء، كاتفاق مدريد للتعاون في مجال الشرطة العبر حدودية الموقع في 16 نونبر 2010...
وفي قراءة لمختلف هذه النصوص يتضح أنّ الآليات التي اعتمدت لمواجهة الهجرة غير الشرعية قد ركزت في مجملها على الجانب الأمني كالتنسيق المعلوماتي وإنشاء معسكرات الاحتجاز وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وكذلك برامج الدعم المالي والتقني لحراسة الحدود البحرية والبرية...، في غياب لأية مقاربة شمولية ومتوازنة، تجعل من البعد التنموي محركها الأساس.
وبذلك يمكن القول أن ظاهرة الهجرة ستبقى مكونا هيكليا في العلاقات بين ضفتي البحر المتوسط، الذي سيستمر في الظهور كمسرح تراجيدي لقوارب الموت، وللتفاعل بين السياسات الحمائية الأوربية، التي تريد من دول الضفة الأخرى أن تكون الدركي الذي يحمي حدودها بمنطق المال مقابل محاربة الهجرة، والأطروحات المغربية التي تبقى عاجزة عن وقف زحف الأمواج البشرية نحو أوروبا.
ثانيا: محاربة الإرهاب
لقد أصبح الإرهاب من أبرز وأعقد الظواهر التي تحضر بقوة في العلاقات المغربية الأوروبية، لما يحمله من تهديد لأمنهما، لاسيما بعد أن مست هذه الآفة المغرب وعددا من الدول الأوروبية، ولما يثيره من إشكاليات مفاهيمية بالأساس جعلته يرتبط في المخيلة الغربية بـ"الأصولية الإسلامية". الأمر الذي فرض على الطرفين الانخراط في مختلف أشكال التنسيق والتعاون الثنائي والمتعدد الأطراف.
ففي إطار التعاون المشترك بين المغرب والاتحاد الأوروبي، يعد الإرهاب من أبرز مجالات التعاون رغم خلو اتفاق الشراكة الأورومغربية من أي بند صريح في هذا الشأن، على خلاف اتفاقيات الشراكة التي أبرمت مع بعض الدول المتوسطية كمصر والجزائر ولبنان . ويبرز حضور هذا الملف على مستوى الحوار السياسي بين الجانبين، حيث أصبح موضوع ناقش داخل مختلف لقاءات الهياكل الثنائية، وعلى مستوى تطوير الهيكل المؤسساتي للشراكة من خلال خلق لجنة "العدالة والأمن"، التي يشكل الإرهاب أحد مجالات اختصاصها .
ثم جاء مخطط عمل المغرب والاتحاد الأوروبي المعتمد في إطار سياسة الجوار ليؤكد بوضوح أكبر على ضرورة تعميق التعاون والحوار حول مكافحة الإرهاب، وذلك من خلال أربع نقاط:
مواصلة التعاون في مجال محاربة الإرهاب : عبر تنفيذ القرارات الأممية والمصادقة على جميع الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية حول الظاهرة؛ وتبادل الآراء والمعلومات والخبرات في هذا مجال.
تقوية التعاون في مجال محاربة الإرهاب : عبر "دعم المغرب في تنفيذ التشريعات المناهضة للإرهاب وقرارات الأممية المعتمدة في هذا الشأن..."، و"تطوير التعاون بين المصالح المختصة في محاربة الإرهاب"، وتعزيز "التعاون القضائي".
التعاون على مستوى تمويل الإرهاب، عبر تبادل المعلومات حول التشريع الأوروبي والآليات الدولية، والتشريع المغربي في مجال غسيل الأموال وتمويل الإرهاب .
التعاون في مجال الأمن البحري: تنص هذه النقطة على "تعميق التعاون في مجال الأمن البحري بهدف محاربة الإرهاب، وذلك في إطار مقتضيات المدونة الدولية لحماية السفن ومرافق الميناء" .
كما يقدم الوضع المتقدم استنادا إلى هذه العناصر إطارا سياسيا مهما للاتحاد الأوروبي لتطوير آليات التعاون مع المملكة المغربية في مجال محاربة الإرهاب، باعتبارها طرفا دوليا فاعلا استطاع فرض مكانته وقدراته في مواجهة هذه الظاهرة.
أما على مستوى الاتفاقيات الثنائية، فقد أبرم المغرب عدة اتفاقيات مع عدد من الدول الأوروبية: منها الاتفاق الأمني الموقع مع اسبانيا في 10 مايو 2004، والذي ينص على تبادل المعلومات والخبرات بين الأجهزة الأمنية للبلدين، وتعقب الشبكات والخلايا الإرهابية، والاتفاق القضائي الموقع في نفس السنة حول مكافحة الإجرام، أساسه تبادل تسليم المجرمين والإرهابيين.
وفي نفس السياق، أبرم المغرب مع فرنسا في 30 مايو 2003 اتفاقية للتعاون الأمني، تحدد مجالات التعاون المشتركة، وفي مقدمتها محاربة الإرهاب، وآليات وسبل محاربته، خاصة فيما يتعلق بتبادل المعلومات المتعلقة بالعمليات والتهديدات الإرهابية، وتبادل الخبرات والمعارف التقنية في مجال أمن المطارات والموانئ والسكك الحديدية...
هناك أيضا اتفاقية تعاون مع البرتغال في مجال محاربة الإرهاب وقعت في أبريل عام 1992، وأخرى مع بلجيكا وقعت حديثا في فبراير 2014، تحدد آليات التعاون للوقاية من الإرهاب ومحاربته، خاصة تبادل المعلومات حول المنظمات الإرهابية، وتبادل المعلومات والخبرات من أجل تطوير الإجراءات الأمنية.
يؤسس مجموع هذه الاتفاقيات وأخرى للتعاون المغربي الأوروبي المتعدد الأبعاد لمواجهة ظاهرة الإرهاب، التهديد الأشد في الفضاء المتوسطي، لاسيما بعد تحول بعض دول الربيع العربي، خاصة سوريا وليبيا، إلى بؤرة توتر تجذب التنظيمات الإرهابية، التي تتمدد في الأماكن التي ينعدم فيها الأمن والاستقرار وتغيب فيها مقومات الدولة، وإمكانات رقابة الحدود وفرض سلطة القانون، وفي مقدّمها امتدادات "داعش" التي اتخذت من العديد من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا، مسرحا لتنفيذ جرائمها.
خلاصة القول، إن الإقرار بوجود قضايا ومشاكل أمنية مشتركة بين المغرب والاتحاد الأوروبي كالهجرة السرية والإرهاب… يقتضي وجود تعاون وتنسيق أمني، يقوم على التبادل والتكامل في المصالح بين الطرفين، بما يجعل كل طرف مهما للآخر، غير أن الواقعية الدولية تجعل درجة الأهمية وحجم المكاسب تختلف من طرف لآخر، حسب أولوياته ومكانته داخل المنطقة المتوسطية. فإذا كانت أوروبا تريد أن تجعل من المغرب تحت غطاء "المصير المشترك" حارسا أمنيا على حدودها بالدرجة الأولى، فإن المغرب يراهن من خلال تعاونه الشامل مع أوروبا، على خدمة قضاياه الحيوية السياسية والاقتصادية.
وهو ما يدفعا إلى التساؤل، في محاولة منا لتقييم الشراكة الأمنية الأورومغربية، عن قيمة وأهمية التعاون الأمني بالنسبة للطرفين، خاصة المغربي، وذلك من خلال الوقوف على مدى انعكاس الدور الأمني للمغرب في علاقاته مع أوروبا على مصالحه الحيوية.
المبحث الثاني: حصيلة الشراكة الأمنية بين المغرب والاتحاد الأوروبي
سنحاول من خلال هذا المبحث تقييم حصيلة الشراكة الأمنية بين المغرب والاتحاد الأوروبي، بعد مرور أزيد من عقدين على انطلاقها. وذلك من خلال رصد حجم الانجازات التي تحققت في مختلف مجالات التعاون الأمني، والمكاسب التي جناها الطرفين من هذا التعاون.
فإذا كانت سنون التعاون الأمني بين المغرب والاتحاد الأوروبي قد أكدت أن المغرب بات شريكا استراتيجيا لأوروبا في صد مجموع الظواهر الأمنية التي تؤرق دولها، وفي مقدمتها الهجرة غير الشرعية والإرهاب (المطلب الأول)، فإنها بالمقابل قد أبانت عن محدودية مكاسب المغرب من هذا التعاون، خاصة على مستوى مصالحه الحيوية (المطلب الثاني).
فما هي الأدوار التي يقوم بها المغرب للتصدي للتحديات والمخاطر الأمنية في المتوسط؟ وإلى أي حد نجح في توظيف ورقة التعاون الأمني مع أوروبا خاصة في صد الهجرة السرية ومحاربة الإرهاب، للحصول على مكاسب تخدم مصالحه الحيوية السياسية والاقتصادية؟
المطلب الأول: المغرب شريك أساسي للاتحاد الأوروبي في المجال الأمني
يمكن رصد الموقع الأمني للمغرب في الفضاء الأورومتوسطي من خلال مجالين أساسيين: دوره في محاربة الهجرة غير الشرعية (أولا)، ودوره في التصدي للإرهاب (ثانيا).
أولا: دور المغرب في محاربة الهجرة غير الشرعية
في إطار المقاربة الأمنية الأوروبية لمعالجة ظاهرة الهجرة غير القانونية، والتي تقوم على تحميل الدول غير الأوروبية المحاذية للاتحاد، التي هي مصدر و/أو معبر للمهاجرين، مهمة محاربة الهجرة نيابة عنه، ومن ثم، حماية الحدود الأوروبية عن بعد ، يبدو أن الاتحاد الأوروبي من خلال مجموع الاتفاقيات التي أبرمها مع المغرب قد نجح إلى حد ما في إقناع هذا الأخير بلعب هذا الدور.
فمن منطلق المسؤولية المشتركة، وأمام تزايد الضغوط الناجمة عن المعالجة الأوروبية الأمنية لظاهرة الهجرة غير الشرعية، وتأثيرها سلبي على علاقات التعاون وحسن الجوار مع شريكه التقليدي، لم يجد المغرب بدّا من الانخراط في محاربة هذه الظاهرة. وذلك من خلال مساهمته في مختلف الجهود الثنائية والإقليمية والدولية للحد من الظاهرة، فضلا عن مجموع التدابير المحلية التي قام باعتمادها لمواكبة التزاماته الخارجية في هذا المجال.
ففي إطار التعاون والتنسيق الأمني، تتركز جهود المغرب ودول الاتحاد الأوروبي على ثلاثة مداخل رئيسية لمحاربة الهجرة غير الشرعية:
تعزيز مراقبة الحدود لمنع تسلل المهاجرين وعبورهم نحو الضفة الشمالية للمتوسط، وذلك عبر تقوية وتطوير أدوات الحراسة والمراقبة الأمنية على مختلف المنافذ البرية والبحرية (مروحيات، وأجهزة الرادار الساحلية، والزوارق السريعة، ومناظير الرؤية الليلية...)، وإطلاق مبادرات مشتركة بين وكالة فرونتكس والمغرب، وتعزيز التنسيق الميداني مع إسبانيا، من خلال الدوريات البحرية والجوية والبرية المختلطة بين الدرك الملكي والحرس المدني الإسباني...
تنسيق التعاون على مستوى تبادل المعلومات لتعقب وتفكيك شبكات تهريب المهاجرين والاتجار في البشر. إذ تم إنشاء فريق عمل مختلط للتعاون الأمني في مجال البحث والتقصي ومكافحة الهجرة غير الشرعية بين المديرية العامة للأمن الوطني ونظيرتها الإسبانية، وتفعيل دور «مركزي التعاون الأمني»، المحدثين في ماي 2012 بكل من طنجة والجزيرة الخضراء، فضلا عن تقوية تبادل المعلومات عن طريق ضباط الربط حول شبكات التهريب التي تنشط في ميدان الهجرة السرية وتهريب البشر .
ترحيل المهاجرين غير القانونين طبقا لاتفاقية إعادة القبول التي تربط المغرب وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، كاسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال وألمانيا...، حيث يلتزم المغرب باسترجاع مواطنيه المتواجدين بشكل غير قانوني فوق التراب الأوروبي، وكذلك المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء وإعادة ترحيلهم نحو بلدانهم الأصلية، رغم ما تثيره هذه عملية من إشكاليات حقوقية، تضر بصورته الخارجية ومصالحه الإستراتيجية المرتبطة بالقارة الإفريقية.
وكمحصلة للتعاون الأمني المغربي الأوروبي في مجال محاربة الهجرة السرية، تظهر الأرقام الرسمية الصادرة عن الجانبين المغربي والأوروبي، خاصة اسبانيا، تراجع عدد المهاجرين السريين الذين وصلوا إلى إسبانيا بحرا بنسبة 90,3 في المائة منذ سنة 2006. وبحسب أرقام وزارة الداخلية الإسبانية، فإن عدد المهاجرين السريين الذين تم اعتراضهم قبالة سواحل إسبانيا سنة 2012 بلغ 3804 شخصا مقابل 5411 في سنة 2011، أي بتراجع نسبته 30 في المائة . ومن جهتها أعلنت السلطات المغربية أنها قد نجحت خلال عام 2014، في تفكيك 97 شبكة لتهجير البشر عبر الحدود مع إسبانيا، وتمكنت من إحباط 80 عملية تسلل واقتحام جماعي لمهاجرين ينحدرون من دول جنوب الصحراء لحدود مدينتي سبتة ومليلية .
وموازاة مع التعاون الأمني الدولي، وضع المغرب استراتيجية وطنية لمحاربة الهجرة غير القانونية، وفق منطق شمولي يجمع بين الأوجه القانونية والمؤسساتية.
فعلى المستوى التشريعي، عمل المغرب على تقوية ترسانته القانونية في مجال تجريم ومحاربة العصابات المتاجرة بالهجرة السرية، من خلال تحيين وتوحيد النصوص التشريعية المنظمة لدخول الأجانب وإقامتهم بالمملكة وتجميعها في إطار القانون رقم 03-02 ، الذي يعد تنزيلا تشريعيا لمقتضيات البروتوكول الملحق باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية المتعلق بمكافحة تهريب المهاجرين ، حيث تم تجريم تهريب المهاجرين، وتشديد العقوبة في حق مرتكبيه . وفي نفس السياق، صادق البرلمان المغربي سنة 2015 على القانون رقم 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر.
وعلى المستوى المؤسساتي، قام المغرب بإحداث أجهزة متخصصة في شؤون الهجرة ومراقبة الحدود، ويتعلق الأمر بكل من مديرية الهجرة ومراقبة الحدود بوزارة الداخلية، التي تتولى تنفيذ الاستراتيجية الوطنية في مجال مكافحة شبكات تهريب البشر ومراقبة الحدود ، وكذا المرصد الوطني للهجرة ، للمساهمة في إيجاد سياسات عمومية ناجعة للحد من ظاهرة الهجرة غير القانونية وانعكاساتها السلبية.
بالإضافة إلى هذه التدابير، قام المغرب في شتنبر 2013 بتدشن سياسة جديدة في مجال الهجرة، تعكس التحول الحاصل في اتجاهات تدفق الهجرة، وتوجه المملكة نحو تطوير نظام للتدابير يتطابق مع المعايير الدولية ويحترم التزاماتها في مجال حقوق الإنسان. تقوم هذه السياسة على أربعة مرتكزات رئيسية: تسوية الوضعية القانونية لطالبي اللجوء والمهاجرين المقيمين بالمغرب والذين يستجيبون لشروط معينة ؛ وضع وبلورة برنامج متكامل لإدماج المهاجرين واللاجئين لضمان تمتعهم وذويهم بكامل الحقوق الأساسية؛ تأهيل الإطار القانوني المتعلق بالهجرة واللجوء ؛ وأخيرا وضع برنامج للمساعدة الإنسانية، يروم تقديم الدعم الإنساني بالنسبة للمهاجرين في وضعية هشاشة.
ولقد كانت هذه السياسة الجديدة للمغرب في مجال الهجرة محط إشادة وترحيب دولي وإقليمي، خاصة من طرف الشريك الأوروبي، لدورها في الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين على السواحل الأوروبية، حيث نوّه مفوض الاتحاد الأوروبي للهجرة والشؤون الداخلية "ديميتريس أفراموبولوس" بدور المغرب الذي اعتبره "نموذجا إقليميا لسياسات الهجرة في المنطقة"، معلنا أن "الاتحاد الأوروبي سيواصل دعم السياسة الجديدة للهجرة، من خلال تمويل مشاريع تهدف إلى تعزيز اندماج المهاجرين وانخراطهم في وسطهم الجديد". وفي هذا السياق قدم الاتحاد الأوروبي للمغرب منحة مالية بقيمة 10 ملايين يورو .
وبذلك، يمكن القول أن المغرب، بعد أن تحول إلى أرض استقرار للعديد من المهاجرين الأفارقة، أصبح يتحمل مسؤوليته في ما يهم استقبال المهاجرين الأفارقة، وتسوية وضعيتهم القانونية، رغم تكلفة هذا التدبير، الذي يتطلب اعتمادات مالية مهمة لإدماج لآلاف المهاجرين في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المغربي، والسماح لهم بالولوج الخدمات الأساسية (الصحة، التعليم، السكن، الشغل...) ولو في حدها الأدنى، علما أنه يعاني أصلا من هشاشة اقتصادية واجتماعية.
غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا يرتبط بمدى إمكانية توظيف هذه الورقة من طرف المغرب لتقوية مركزه التفاوضي مع الاتحاد الأوروبي، لفرض خياراته في هذا المجال، والحصول على مكاسب أكبر خاصة في الشق المتعلق بالتنقل القانوني للمغاربة نحو الاتحاد، كما هو شأن المفاوض التركي الذي نجح إلى حد ما في انتزاع تعهدات برفع التأشيرة عن المواطنين الأتراك من خلال استعمال ورقة اللاجئين.
ثانيا: المغرب فاعل محوري في محاربة الإرهاب
إن انخراط المغرب، منذ تفجيرات الدار البيضاء في 16 ماي 2003، في استراتيجية مكافحة الإرهاب، ودعم كل الجهود الدولية في هذا المجال، أكسبه خبرة محلية وإقليمية ودولية مهمة، جعلته فاعلا ومخاطبا محوريا في محاربة التطرف والإرهاب، خاصة لدى شركائه الأوروبيين التقليديين.
فقد أظهرت الأحداث الإرهابية التي استهدفت العديد من الدول الأوروبية في السنتين الأخيرتين، خاصة فرنسا وبلجيكا وألمانيا ، أن المغرب بات رقما مهما في معادلة أوروبا لمحاربة للإرهاب، حيث اتجهت العديد من دول الاتحاد لطلب مساعدة الأجهزة الأمنية المغربية لتبادل المعلومات حول العناصر الإرهابية المتواجدة في أوروبا.
كانت إسبانيا أول بلد أوروبي يقر علانية بأهمية التعاون الأمني مع أجهزة المخابرات المغربية، حيث بادرت سلطاتها في أكتوبر 2014 إلى توشيح المدير العام لمراقبة التراب الوطني في شخص "عبد اللطيف الحموشي" بوسام "الاستحقاق الأمني"، اعترافا منها بالدور الاستراتيجي للمغرب في حربها ضد التطرف والإرهاب العابر للحدود والحفاظ على أمن مدريد وأمن أوروبا .
فقد تمكن المغرب وجاره الإيبيري من إحراز تقدم وتفاهم كبيرين في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة، من خلال نهج سياسة أمنية مشتركة تنبني على تبادل المعلومات والخبرات، وعلى التنسيق لاستباق تحركات المنظمات الإرهابية والخلايا السرية التي تنشط في المنطقة المتوسطية . وهو ما قاد إلى تفكيك مجموعة من الخلايا الإرهابية، والقبض على عدد من الإرهابيين الناشطين في مجال الاستقطاب والتطرف بالبلدين، كان آخرها العملية المشتركة التي أفضت في 12 أكتوبر 2016 إلى تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم «داعش»، تتكون من عنصرين ينشطان بمدينتي تطوان والفنيدق شمال المغرب، وشريكين لهما يقيمان بإسبانيا .
بدورها عبرت فرنسا على لسان رئيس الدولة "فرانسوا هولاند" عقب هجمات باريس عن شكرها للأجهزة الأمنية المغربية على قيمة المعلومات التي قدمتها لنظيرتها الفرنسية، والتي ساهمت بشكل فعال في كشف الخلية الإجرامية التي قامت بالأعمال الإرهابية في"سان دوني"، وساعدت في الوصول إلى العقل المدبر لهذه الهجمات واغتياله.
هذا بالإضافة إلى دور المغرب في محاربة التطرف في إفريقيا، خاصة في منطقة الساحل والصحراء التي تنشط فيها الجماعات الإرهابية. فبمشاركته في التحالف الدولي في مالي، وبفضل علاقاته الجيدة مع عدد كبير من دول الساحل والصحراء، فهو يقدم لأوروبا خدمات مهمة في محاربة التطرف ومكافحة الجريمة المنظمة في عمقها الاستراتيجي.
هذا السياق، جعل الاتحاد الأوروبي والعديد من أعضائه أكثر إقبالا على التجربة المغربية في مجال محاربة التطرف والإرهاب. فقد أعرب الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد عن عزمه على إقامة نظام لتبادل المعلومات مع الدول العربية ودول شمال أفريقيا، في إشارة إلى المغرب، كما بادرت دول أوروبية أخرى كبلجيكا وألمانيا وإيطاليا إلى الإعلان عن رغبتها في إرساء تعاون وثيق ومتقدم مع المملكة المغربية في مجال الاستخبارات والأمن لمحاربة الإرهاب ، وفي محاربة التطرف خاصة في مجال تكوين الأئمة ومراقبة المساجد.
يستمد المغرب هذه المكانة من التجربة والخبرة التي راكمها من خلال الإستراتيجية التي اعتمدها لمحاربة الإرهاب منذ سنة 2003، والتي تقوم على مقاربة شاملة متعددة الجوانب، تمزج الأمني بما هو قانوني، وديني، وتنموي.
يروم المدخل الأمني تقوية البنية الأمنية الداخلية وتزويدها بالوسائل الضرورية لاستباق العمليات الإرهابية . فعلاوة على الأجهزة التقليدية لنظام المخزن المتمثلة في أعوان السلطة، إضافة إلى جهازي الشرطة والدرك، اتخذ المغرب عدة إجراءات لتحصين بنيته الأمنية أهمها: إحداث شرطة القرب، إطلاق برنامج "حذر" في أكتوبر 2014 ، وإحداث المكتب المركزي للأبحاث القضائية سنة 2015 كهيكل جديد متخصص في جرائم الإرهاب . وهو ما مكن المصالح الأمنية المغربية من استباق الأحداث وإحباط مجموع الأعمال التي تستهدف أمن المغرب واستقراره، حيث جرى تفكيك 132 خلية إرهابية بين سنة 2002 ومارس 2015؛ وإحباط 276 مخططا إرهابيا، وإيقاف 2720 مشتبها في علاقتهم بتنظيمات إرهابية .
ومن الناحية القانونية، عمل المغرب على تعزيز ترسانته القانونية في هذا المجال، حيث قام مباشرة بعد تفجيرات الدار البيضاء بإصدار القانون رقم 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب ، الذي تمت مراجعته سنة 2014 في إطار القانون رقم 86.14 . هذا الأخير أضاف فصلا جديدا يجرم الالتحاق أو محاولة الالتحاق بالمعسكرات التدريبية الإرهابية بالخارج. هذا بالإضافة إلى إصدار قانون لمحاربة غسل الأموال سنة 2007 ، يسهّل تجميد الحسابات المشكوك بها، وإنشاء ِوحْدَة استخبارات مالية للتحري والتحقيق في القضايا المالية والإرهابية.
أما المدخلين الديني و



نشر الخبر :
رابط مختصر للمقالة تجده هنا
http://www.mcmd.ma/news79.html
نشر الخبر : Administrator
عدد المشاهدات
عدد التعليقات : 8
أرسل لأحد ما طباعة الصفحة
أضف تعليقك
  1. تعليقات الزوار